فصل: تفسير الآيات (16- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (16- 25):

{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}.
قلنا- في أكثر من موضع-: إن هذه الأقسام المنفية في القرآن، إنما يقسم بها على أمور واضحة، لا تحتاج في تقرير حقيقتها، وتوكيد وجودها، إلى قسم.. فالتلويح بالقسم هنا إشارة إلى أن ما يقسم عليه لا يحتاج إلى قسم لمن عنده أدنى نظر، أو مسكة عقل، فهو في الواقع قسم مؤكّد بهذا النفي الذي وقع عليه.
والشفق: هو الصفرة المشوبة بحمرة، تعلو وجه النهار عند الغروب.
وهو إيذان بدخول الليل، ولهذا جاء الليل معطوفا على الشفق.. {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ}.
وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ} إشارة إلى ما يحمل الليل من نجوم وكواكب، كما أنه يحمل كل هذه الكائنات التي كانت تتحرك بالنهار، فيضمها إلى جناحه ويحملها على صدره، كما تحمل الأم وليدها.. والوسق:
الحمل، الذي يوضع على ظهر الدابة.
وقوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي إذا اكتمل، وصار بدرا.
يقال: اتسق الشيء: أي بلغ غاية تمامه.
وفى الجمع بين الشفق، والليل، والقمر، مراعاة للمناسبة الزمنية الجامعة بينها.. فالشفق أول الليل من الأفق الغربي، والقمر أوله من الأفق الشرقي.. (حيث يكون اتساقه وكماله وهو بدر في الليلة الخامسة عشرة).
فالمقسم به الواقع عليه النفي، هو هذا الظرف من الزمن، وهو ليلة انتصاف الشهر القمري، حيث تغرب الشمس، ويطلع القمر.. أو حيث يولّى سلطان الشمس، ويقوم سلطان القمر.
فالظرف الزمنى هنا، هو الليل الذي يقوم عليه سلطان القمر.
والليل، بمثل الإنسان في جسده الترابي، المظلم المعتم.
والقمر، يمثل الضمير، أو الفطرة المركوزة في هذا الإنسان، والتي يهتدى بها إلى الحق والخير، حين تظلم شمس العقل، وتختفى في ظلمات الحيرة، وبين سحب الشكوك والريب.
ولهذا وقع القسم على تلك الحال التي يركب فيها الإنسان غواشى الضلال، وتلقاه على طريقه المزالق والمعاثر: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} فلا يكون له مفزع حينئذ إلا فطرته، التي يهتدى بها إلى طريق النجاة، كما يفعل الحيوان في تصريف أموره، على ما توجهه إليه غريزته.. فإذا افتقد الإنسان فطرته في هذا الموطن، كان من الهالكين.
وقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}.
هو جواب لهذه الأقسام المنفية التي لوّح بها، والتي يخفيها النفي، ويظهرها للمقام.
وقوله تعالى: {طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} أي لتتحولن عن حالكم تلك إلى حال أخرى مطابقة لها، حيث تجدون وجودكم في الآخرة، صادرا عن وجودكم في الدنيا.
وفى التعبير بالركوب، عن التحول من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف- إشارة إلى أن ذلك لا يكون إلا على طريق شاق، يلاقى فيه الناس الأهول والمخاطر.
إنهم ينتقلون من نهار، كله سعى وعمل، إلى ليل بطل فيه كل سعى وعمل.. وفى الليل يلتقى المهمومون مع همومهم، على حين يتناجى السعداء مع آمالهم وأحلامهم!.. ثم إنهم ينتقلون من الحياة إلى الموت، ثم من الموت إلى الحياة.. من الدنيا إلى الآخرة.. وهى رحلة طويلة شاقة يقطعها الإنسان في جهد وعناء، متنقلا من حال إلى حال، ومتقلّبا في صور مختلفة، ومنازل متبانية.
قوله تعالى: {فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
أي ما لهؤلاء المكذبين باليوم الآخر، لا يؤمنون به، ولا يعملون له وقد جاعتهم؟؟ به النذر؟.
وماذا أضلهم عنه، أو حجبهم دونه؟ إنه ليس إلا الكبر والعناد.. وإلا التنكر لفطرتهم التي تهتف بهم أن آمنوا باللّه!.
وقوله تعالى: {وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ}.
ثم مالهم إذا تليت عليهم آيات اللّه، لا يسجدون لجلالها، ولا يخشعون لعظمتها؟.
وفى هذا إشارة إلى ما في القرآن من جلال تعنو له الجباه، وتخشع لسلطانه القلوب.. {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [21: الحشر].
وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ}.
هو إضراب عن هذا السؤال، الذي يستحثهم إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر، وإلى توقير آيات اللّه، والخشوع بين يديها.. فهذا التحريض لهم، لا ينفعهم، ولا يؤثر فيهم.. إنهم كافرون، والكافرون من شأنهم التكذيب:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [6: البقرة] {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [96- 97: يونس] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ}.
هو تهديد لهؤلاء المكذبين بآيات اللّه، المنكرين للبعث.. فاللّه سبحانه أعلم بما يجمعون من محصول ضلالهم وكفرهم.
ويوعون: من أوعى يوعى.. أي جمع وحفظ ما جمع في وعاء.. ومنه قوله تعالى: {وَجَمَعَ فَأَوْعى} [18: المعارج].
قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}.
وهكذا يتحول النبي مع هؤلاء المشركين المكذبين، من منذر إلى مبشر، ولكنه مبشّر بالعذاب الأليم لهم.. فهذا ما يبشرهم به، على حين يبشر المؤمنين بجنات النعيم.. وفى التعبير بالبشرى عن بالعذاب الأليم بدلا من الإنذار به- إشارة إلى أنه لا شيء لهؤلاء الضالين المكذبين يبشرون به في هذا اليوم، وأنهم إذا بشروا بشيء فليس إلا النار، والعذاب الأليم.. وفى هذا تيئيس لهؤلاء الضالين من أي خير!! قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جزاؤهم من البر والإحسان، لا ينقطع أبدا.. فالاستثناء هنا منقطع.

.سورة البروج:

نزولها: مكية- نزلت بعد سورة الشمس.
عدد آياتها: اثنتان وعشرون. آية.
عدد كلماتها: مائة كلمة، وتسع كلمات.
عدد حروفها. أربعمائة وثمانية وخمسون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
هى معرض من معارض يوم القيامة، فكان سياقها مع ما سبقها، سياق الجزء من كل.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 9):

{وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ}.
البروج: جمع برج، وهو القصر، أو الحصن، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.
وبروج السماء، هي المنازل التي تنزل فيها الكواكب والنجوم في مداراتها وبروج الشمس، هي منازلها في حركتها على مدار السنة، وهى اثنا عشر برجا.
منها ستة شمال خط الاستواء، وستة في جنوبه.. وقد رصد الفلكيون قديما وحديثا، هذه المنازل، وسموها بأسمائها.. وهى: الحمل، والثور، والجوزاء والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت.
قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}.
هو يوم القيامة، الذي وعد به الناس على لسان رسل اللّه.
وقوله تعالى: {وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}.
الشاهد: الرائي للأشياء، المحسّ بها، حيث يشهدها واقعة في حواسه.
والمشهود: ما يقع عليه الحسّ البصري من عوالم المخلوقات، في الأرض وفى السماء.
ففى هذه الأقسام الثلاثة جمع اللّه سبحانه وتعالى، عالم المخلوقات، علويّة، وسفلية، وغائبة وحاضرة، ومنظورة وناظرة.
لقد استحضر اللّه سبحانه وتعالى، الوجود كله، ليشهد هذا الجرم الغليظ، وليسمع حكمه سبحانه، على المجرمين الذين اقترفوه.
ومن هؤلاء المجرمون؟
إنهم أصحاب الأخدود!! وبماذا حكم اللّه عليهم؟
بالقتل بيده سبحانه، كما قتلوا المؤمنين، رجال اللّه، بأيديهم.
{قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ}.
والأخدود: الشق في الأرض، وجمعه أخاديد.
وأصحاب الأخدود، هم قوم كافرون باللّه، كان لهم موقف مع المؤمنين باللّه، شأنهم في هذا شأن كل الكافرين مع المؤمنين في كل زمان ومكان.
ولكن أصحاب الأخدود هؤلاء، قد جاءوا بمنكر لم يأته أحد من إخوانهم من أهل الضلال، ولهذا كانت جريمتهم أشنع جريمة، يستدعى لها الوجود كله، ليشهد محاكمتهم، وليسمع حكم اللّه عليهم.
لقد خدّوا أخاديد في الأرض، أي حفروا حفرا عميقة في الأرض، وملئوها حطبا، وأوقدوا فيها النار، حتى تسعرت، وعلا لهيبها، واشتد ضرامها، ثم نصبوا كراسى حولها يجلسون عليها، وجاءوا بالمؤمنين باللّه يرسفون في أغلالهم يعرضونهم على النار واحدا بعد واحد، ويلقونهم فيها مؤمنا إثر مؤمن.
والمؤمنون يرون هذا ويقدمون عليه، دون أن ينال هذا العذاب من إيمانهم، أو يردهم عن دينهم الذي ارتضوه.. وفى هذا شاهد من شهود الإيمان المتمكن من القلوب، الراسخ في النفوس.. إنه أقوى من الجبال الراسيات، لا تنال منها الأعاصير، ولا تزحزحها عانيات العواصف! وقوله تعالى: {النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ}.
وهو بدل من {الأخدود}.
أي قتل أصحاب النار ذات الوقود.
وقوله تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}.
أي أن أصحاب الأخدود قعود على هذه النار، قائمون عليها، يشهدون تنفيذ حكمهم في المؤمنين باللّه، ويتشفون بما هم فيه من عذاب.
وقوله تعالى: {وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
أي أنه ليس بين أصحاب الأخدود هؤلاء، وبين المؤمنين، من ذنب يأخذونهم به، إلا إيمانهم باللّه العزيز الحميد.. إنهم يؤمنون باللّه الذي لاقوة إلا قوته، ولا عزة إلا عزته، وأن ما يملكه أصحاب الأخدود من قوة، وما يجدونه في أنفسهم من عزة، هو شيء محقر مهين إلى جانب عزة اللّه، التي يلوذ بها المؤمنون.. وهم- أي المؤمنون- يحمدون اللّه على السراء كما يحمدونه على الضراء، فهو سبحانه المستحق وحده للحمد في جميع الأحوال.. وهو سبحانه، له ملك السموات والأرض وما فيهن، من عتاة وجبارين ومتكبرين، وهو يرى ويعلم كل شيء، فينتقم لأوليائه، ويأخذ لهم بحقهم ممن اعتدى عليهم.
ولقد انتقم اللّه لأوليائه، وهاهم أولاء المجرمون قد سيقوا إلى ساحة قضائه العادل، وقد صب اللّه عليهم لعنته، وألقى بهم في عذاب الحريق! وفى التعبير عن إيمان المؤمنين بفعل المستقبل: {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا}، بدلا من الفعل الماضي، الذي يقتضيه المقام، والذي بسبب وقوعه كانت نقمة الناقمين عليهم- في هذا إشارة إلى أن هذا الإيمان الذي في قلوب هؤلاء المؤمنين، هو إيمان ثابت في قلوبهم، مصاحب لهم، لا يتحولون عنه، ولا يجليه عن قلوبهم وعد أو وعيد.
هذا ولقد كثرت الأقوال في أصحاب الأخدود، وفى الزمان الذي كانوا فيه، والوطن الذي ينتسبون إليه.. وكثرة هذه الأقوال وتعارضها يفقدها الأثر الذي لها، ويجعل كلّ قول غيرها- ولو كان من واردات الظن والافتراض- مثلها تماما في النظر إليه عند تصوّر الحدث.
والقرآن الكريم، لا يذكر أسماء الأشخاص، أو تحديد الأماكن أو الأزمان، إلا إذا كان للشخص دلالة خاصة في ذاته، لا ترى في غيره، وإلا إذا كان للمكان أو الزمان، أثر خاص في الحدث الذي حدث فيه، أو صفات لا توجد في مكان آخر، أو زمن غير هذا الزمن.
أما حين لا يكون للشخص أو المكان أو الزمان وزن خاص في ميلاد الحدث، وفى تكوين صورته، وطبعه بطابعه الخالص، فلا يعنى القرآن بذكر ذات الشخص، ولا موضع المكان، ولا حدود الزمان.. وذلك ليكون الحدث مطلقا من أي قيد، ليعطى دلالة وحكمة، حيث يلتقى بما يشبهه من ذوات الأشخاص، وملامح الزمان والمكان.

.تفسير الآيات (10- 22):

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ}.
الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: أي الذين كادوا لهم في دينهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء ليفتنوهم في دينهم، ويخرجوهم منه.
وهذا وعيد من اللّه سبحانه وتعالى لكل من تعرض لأوليائه المؤمنين والمؤمنات، بأذى، يريد أن يصرفهم عن الإيمان، أو يصدّهم عنه.. فهؤلاء الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات بسبب إيمانهم، إذا لم ينزعوا عما هم فيه، ولم يرجعوا إلى اللّه مؤمنين تائبين، فقد أعدّ اللّه لهم عذاب جهنم، بما فيها من مقامع من حديد، ومن شدّ إلى السلاسل والأغلال، ومن حميم يصبّ فوق الرءوس، ومن غساق يقطع الأمعاء.. ثم لهم فوق ذلك كله عذاب الحريق، أي عذاب النار ذاتها، الذي يرعى أجسامهم، كما ترعى النار الحطب.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}.
هو في مقابل ما يلقى الذي فتنوا المؤمنين والمؤمنات، من عذاب.
إذ ليس العذاب هو كل ما في الآخرة، بل فيها إلى جانب النار للمجرمين، جنات تجرى من تحتها الأنهار للمؤمنين المتقين: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ} [20: الحديد].
قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} البطش الأخذ بالشدة الباطشة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي أن عقاب اللّه سبحانه للمجرمين عقاب شديد، متمكن منهم، لا يجدون سبيلا للفرار منه.. وفى هذا وعيد للمشركين، وشدّ لأزر النبيّ، وإلفاته إلى أن هؤلاء المشركين هم في قبضة اللّه، لا يفلتون منه أبدا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}.
أي أنه سبحانه يبدئ الخلق ويعيده، فيحيى ويميت، ويميت ويحيى، وفى هذا دليل على القدرة الفعّالة الدائمة، القائمة على تدبير هذا الوجود، وتبدّل صوره حالا بعد حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [29: الرحمن].
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ}.
أي ومن صفاته سبحانه أنه {الغفور} أي الكثير للغفرة لذنوب عباده المؤمنين، الذين يجيئون إليه تائبين مستغفرين: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى} [82: طه].. وهو سبحانه {الودود} أي الكثير الودّ لمن وادّ اللّه ورسوله، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا} [96: مريم] وهو سبحانه صاحب السلطان الرفيع العظيم، الذي لا يساميه سلطان.
وهو- سبحانه- الفعال لما يريد.. أي يفعل ما يشاءدون معوق أو معقب.
فكل ما أراده سبحانه تمضيه قدرته.
وفى هذا العرض لصفات اللّه- سبحانه- الجامعة بين القدرة والبطش، وبين المغفرة والود- في هذا وعيد ووعد، وتهديد وترغيب.. فمن خاف وعيد اللّه بالعذاب، تلقاه وعده بالرحمة والرضوان، ومن أفزعه التهديد بالنار وعذابها، آنسه للترغيب بالجنة ونعيمها وقوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}.
هو إلفات إلى طغمة من عتاة الناس وأشرارهم، من الذين استخفوا بقدرة اللّه، ولم يرهبوا سلطانه، فتسلطوا على العباد، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد.
والاستفهام هنا: إما أن يكون على حقيقته، ويكون النبي صلى اللّه عليه وسلم قد تلقى من آيات ربه قبل ذلك، حديثا عن فرعون، وثمود، وما أخذهم اللّه به من بلاء ونكال، وعلى هذا يكون جواب الاستفهام محذوفا، تقديره.
نعم أنانى حديث الجنود فرعون، وثمود! ويكون التعقيب على هذا الجواب أظهر من أن بدل عليه، وهو: ألا ترى في هذا الحديث ما أخذ اللّه به أهل البغي والتعدي؟ وهل قومك أعتى عتوّا وأشد قوة من فرعون وجبروته، وتمود وبطشهم؟
ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا به بالنفي، أي إنه لم يأتك حديث الجنود.. وإذن فسنقصه عليك فيما سينزل عليك من آياتنا بعد.. وفى هذا ما ببعث الشوق والتطلع إلى هذا الحديث العجيب، وانتظاره في لهفة، وترقب.
وفى وصف القوم بالجنود، إشارة دالة إلى أنهم ذوو بأس وقوة، كبأس أبطال الحرب وقوتهم، وأنهم في حرب مع أولياء اللّه، يلبسون لباس الحرب دائما.
قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ} هو إضراب عن انتفاع المشركين بهذه العبر والمثلات، التي يقصها اللّه سبحانه وتعالى من أخبار القرون الأولى، وما أخذ به أهل الضلال والسفه والعناد.. فالذين كفروا {فى تكذيب} أي هكذا شأنهم دائما، هم في سلسلة لا تنقطع من التكذيب لكل ما يسمعون من آيات اللّه، دون أن يصغوا إلى ما يسمعونه، أو يعقلوه.. فالتكذيب بآيات اللّه وبرسل اللّه، هو الظرف الذي يحتويهم في كل زمان ومكان.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ} تهديد لهم بأن اللّه سبحانه وتعالى محيط بهم، وهم في غفلة عن هذا، وهم لهذا سيؤخذون دون أن يشعروا، لأنهم غافلون عن علم اللّه، وعن قدرته، ذاهلون عن عقابه الراصد للمجرمين الضالين.
وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} هو إضراب عن هذا الإضراب.. وذلك أن المشركين، وإن لم ينتفعوا بما في القرآن، ولا بشيء من نوره الذي يملأ الآفاق.. فهو قرآن مجيد، أي عالى القدر، رفيع الشأن لا ينال منه هذا النباح، ولا يصل إلى سمائه هذا العواء، من المشركين الضالين.. أنه في لوح محفوظ عند اللّه، وفى كتاب مكنون، ولا يمسّه، ولا يصافح نوره، إلّا من طهرت أنفسهم من دنس الكفر ورجس الضلال.